هل حقا تكذب ناسا.. لماذا يوجد آلاف المؤمنين بأن الأرض مسطحة؟
الأرض مسطحة، لكن وكالة ناسا، لسبب ما، تخفي عنّا هذه الحقيقة، وتستخدم تقنيات عالية الدقة لتصميم صور تُبيّن أن الأرض كروية، وهذه التقنيات تبلغ من الدقة بحيث يمكن أن تخدع كل الخبراء في العالم، اليابانيون منهم والهنود والعرب، فهم -أقصد هؤلاء في ناسا- يمتلكون المليارات من الدولارات، خاصة وأن هذه الوكالة تحديدا لها سابقة أخرى في تزييف نزول البشر على القمر، ومن يدري؟ ربما هي محاولة من الماسونية العالمية للسيطرة على البشر دون علمهم، هل تعرف أن الـ “CIA” هي من نفّذ أحداث 11 (سبتمبر/أيلول)؟ نعم، ألا تصدق ذلك؟ ألم تشاهد هذا الفيديو الأخير الذي يظهر فيه صوت انفجار بسيط قبل قدوم الطائرات؟ الحكومات تتآمر على شعوبها لكي تعلمهم الخوف والخضوع، تلك فكرة معقولة جدا، أليس كذلك؟ما نظرية المؤامرة؟في الحقيقة، لا يمكن لنا إعطاء تعريف محدد لما تعنيه “نظرية المؤامرة”، فمثلا توجد دول بالفعل تحاول إيهام مواطنيها بأن هناك خطرا ما يهدد أمانهم، قد تتآمر إحدى شركات الدواء من أجل تمرير علاج خاص به رغم أن هناك ما هو أفضل منه، لكن حينما يتطرق الأمر إلى مجموعة محددة من القناعات لا تكون المشكلة في إن كان هذا قد حدث بالفعل أم لا، لكن في آلية الاعتقاد بذلك، خذ مثلا فكرة الشر، عادة ما يقتنع مروّجو نظرية المؤامرة أن هناك كيانا “شريرا” ما يحاول بث الفساد في الدولة/العالم، فقط لغرض الإفساد، في الغالب يكون ذلك هو صورة من “الشر” ليست معتادة في حياتنا العادية، الطبيعي هو أن يتآمر أحدهم فقط لمصلحة سياسية ما أو لغرض نفعي في العموم، النقود مثلا.
نقطة أخرى لافتة للانتباه من خصائص نظرية المؤامرة هي مدى جودتها(1)، حيث يفترض مروّجوها في العموم أن هؤلاء المتآمرين مهرة بشكل يفوق الدرجات الطبيعية، حيث لا يتركون وراءهم أي دلائل تشير إلى وجودهم، أو إلى خططهم، كذلك فهم دائما يستخدمون تقنيات عالية الدقة ربما لا يعرف البشر عنها شيئا بعد، لأنها ربما من تطوير أجهزة استخباراتية مثلا، بينما لا نلتقي بذلك في العالم الواقعي، هناك مؤامرات بالطبع لكنها تنضم داخل النطاق الطبيعي للعمل السياسي أو الاستخباراتي، وبين حين وآخر -ربما بعد تبدل الأنظمة- تظهر تأويلات ودلائل جديدة على وقوعها.
أضف إلى ذلك أن مروّجي نظرية المؤامرة لا يقومون ببناء نظريات، ولكنهم فقط يتتبعون حالات الشذوذ عما يمكن أن نسميه “الرواية الرسمية”(2)، ثم بعد ذلك يقومون بربط النقاط مع بعضها البعض للوصول إلى فكرة المؤامرة والتي عادة ما تكون غير قابلة للإثبات أو النفي، بمعنى أنها تكون ادعاءات من الضخامة بحيث لا يمكن لنا تكذيبها عبر أي دلائل، فنقول مثلا إن “الأشرار في إدارة الدولة -أو حتّى المعارضة- يريدون إسقاط الوطن لسبب ما”، هذا ادعاء لا يمكن لنا إيجاد شيء لنفيه، ولكن يمكن جمع مئات الدلائل لإثباته، فهو يشبه القول إن “الطيبين هم من يتوفّاهم الله” أو “العالم قديما كان أجمل”… إلخ، تلك الادعاءات بالأساس لا تصلح لتكون ادعاءات، يمكنك لتحقيق فهم أكبر لتلك الفكرة قراءة تقرير سابق للكاتب بعنوان “القابلية للتكذيب”.
بالتالي فإن نظرية المؤامرة، بالشكل الذي نود الحديث عنه هنا، هي حالة خفيّة لا يمكن التدليل عليها، ولذلك فهي تظهر في شكل مجموعة من الثقوب إذا دققنا النظر قليلا في الادعاء الرسمي، وفي كتابه(3) “ثقافة المؤامرة: نسخة أبوكاليبسية من أميركا المعاصرة” (A Culture of Conspiracy: Apocalyptic Visions in Contemporary America) يجمع مايكل باركون خصائص “ثقافة” المؤامرة في ثلاث نقاط مهمة يقتنع بها مروّج نظرية المؤامرة كقاعدة تقع في خلفية أفكاره، وهي: لا شيء يحدث بالمصادفة، لا شيء يكون كما يبدو عليه، وكل شيء مرتبط ببعضه.
لكن، ما يثير التساؤل العلمي هنا هو عدد المقتنعين بتلك الأفكار، فمثلا في استطلاع(4) جماهيري بالولايات المتحدة الأميركية كان 36% من الناس مقتنعين بأن أحداث 11 (سبتمبر/أيلول) هي مؤامرة داخلية من الحكومة الأميركية، 20% منهم مقتنعون أن هناك كائنات فضائية بالفعل ولكن ناسا بالتعاون مع الـ “سي آي ايه” (CIA) تُخفي الخبر، 37% منهم مقتنعون أن التغير المناخي هو ادعاء كاذب للسيطرة على المواطنين، في الوطن العربي تكثر كذلك ادعاءات شبيهة، حاليا عن الأرض المسطحة، وتزوير ناسا للهبوط على القمر، ذلك بالطبع بجانب ادعاءات متعلقة بمؤامرات صهيونية، أو مقتل رؤساء عرب، كعبد الناصر، والسادات، أو ياسر عرفات مثلا.
في هذا الجانب يتدخل علم النفس الاجتماعي عبر عدة تجارب لتأكيد أن ميل البشر إلى أفكار كتلك مرتبط في الأساس بعدد من خصائص المجتمعات البشرية، والتي -ربما- كانت بقايا من أسلوب حياة حذر عاشه البشر في حشائش السافانا منذ 80 ألف سنة مضت، لكي نفهم ذلك سوف نبدأ بضرب مثال، لنقارن بين حدثين شهيرين، الأول هو وفاة جمال عبد الناصر سنة 1970، والثاني هو محاولة اغتيال محمد حسني مبارك، الرئيس المصري السابق، في أديس أبابا سنة 1995.
لماذا يؤمن الكثير من الناس بها؟هنا نتعرّف إلى ما نسميه بتحيّز التناسب(5) (Proportionality bias)، ويعني أننا كبشر نميل إلى إرجاع الأحداث الكبيرة إلى أسباب كبيرة مثلها، فمثلا إلى الآن كان قتل جون كيندي محل جدل شديد في الولايات المتحدة، ورغم أن رؤساء آخرين تعرضوا لمحاولات اغتيال كبيرة فإن ضخامة حدث “الموت” نفسه لشخصية عامة يستدعي أن تكون أسبابه ضخمة كذلك، فتكون بالتأكيد أكبر من كونها خلافات سياسية، أو تطرف توجهات محددة، لكن يصل الأمر إلى تكبيرها فتصبح مؤامرة ضخمة، حتّى نصل إلى توقعات بأن الكائنات الفضائية هي من قتلت كيندي، كذلك فإن الوضع يتشابه قليلا مع مثالنا بالأعلى عن عبد الناصر ومبارك، ورغم وجود عدة ظروف أخرى مختلفة في الحالتين، فإن حدث الموت نفسه يدفع بالناس إلى التحيز في تقدير السبب.
يرتبط ذلك، ربما، لكن من وجهة نظر مختلفة، بفكرة أخرى مهمة يعبر عنها باحثو ثلاث دراسات(6) مهمة بجملة “أنا أكثر تميزا من أن أُخدع” (Too special to be duped)، حيث تشير تلك المجموعة من الدراسات، المنشورة (أكتوبر/تشرين الأول) الفائت بمجلة “الجورنال الأوروبي لعلم النفس الاجتماعي” (European journal of social psychology)، إلى وجود روابط واضحة بين الحاجة الذاتية إلى التفرد، حاجتنا أن نكون متميزين ونظهر كـ “منشقين” عن السرب، مختلفين بأفكارنا، وبين العقلية التآمرية العامة (عقلية المؤامرة)، أو مجرد تأييد معتقدات نظريات المؤامرة المحيطة بنا، بل تشير الدراسة الثالثة من تلك المجموعة إلى أن الخاضعين للتجربة ممن أيّدوا نظريات تآمرية كانوا أكثر ميلا إلى تأييد تلك التي قيل لهم إن هناك عددا قليلا من الناس يؤيدونها، ما يعني أنهم التفتوا بشكل أكبر لرغبتهم في التميز والميل نحو تأييد أي شيء يبدو مختلفا فقط لمجرد اختلافه.
لماذا يؤمن الكثير من الناس بها؟هنا نتعرّف إلى ما نسميه بتحيّز التناسب(5) (Proportionality bias)، ويعني أننا كبشر نميل إلى إرجاع الأحداث الكبيرة إلى أسباب كبيرة مثلها، فمثلا إلى الآن كان قتل جون كيندي محل جدل شديد في الولايات المتحدة، ورغم أن رؤساء آخرين تعرضوا لمحاولات اغتيال كبيرة فإن ضخامة حدث “الموت” نفسه لشخصية عامة يستدعي أن تكون أسبابه ضخمة كذلك، فتكون بالتأكيد أكبر من كونها خلافات سياسية، أو تطرف توجهات محددة، لكن يصل الأمر إلى تكبيرها فتصبح مؤامرة ضخمة، حتّى نصل إلى توقعات بأن الكائنات الفضائية هي من قتلت كيندي، كذلك فإن الوضع يتشابه قليلا مع مثالنا بالأعلى عن عبد الناصر ومبارك، ورغم وجود عدة ظروف أخرى مختلفة في الحالتين، فإن حدث الموت نفسه يدفع بالناس إلى التحيز في تقدير السبب.
يرتبط ذلك، ربما، لكن من وجهة نظر مختلفة، بفكرة أخرى مهمة يعبر عنها باحثو ثلاث دراسات(6) مهمة بجملة “أنا أكثر تميزا من أن أُخدع” (Too special to be duped)، حيث تشير تلك المجموعة من الدراسات، المنشورة (أكتوبر/تشرين الأول) الفائت بمجلة “الجورنال الأوروبي لعلم النفس الاجتماعي” (European journal of social psychology)، إلى وجود روابط واضحة بين الحاجة الذاتية إلى التفرد، حاجتنا أن نكون متميزين ونظهر كـ “منشقين” عن السرب، مختلفين بأفكارنا، وبين العقلية التآمرية العامة (عقلية المؤامرة)، أو مجرد تأييد معتقدات نظريات المؤامرة المحيطة بنا، بل تشير الدراسة الثالثة من تلك المجموعة إلى أن الخاضعين للتجربة ممن أيّدوا نظريات تآمرية كانوا أكثر ميلا إلى تأييد تلك التي قيل لهم إن هناك عددا قليلا من الناس يؤيدونها، ما يعني أنهم التفتوا بشكل أكبر لرغبتهم في التميز والميل نحو تأييد أي شيء يبدو مختلفا فقط لمجرد اختلافه.
هناك إذن أسباب داخلية ذات علاقة بطبيعة الأشخاص الذين يميلون إلى نظريات المؤامرة، ربما يؤكد ذلك تصورا سابقا لتلك الدراسة عن ظاهرة الإسقاط (Projection)، ففي مجموعة دراسات أخرى(7) نُشرت بـ “الجورنال البريطاني لعلم النفس الاجتماعي” (British Journal of Social Psychology)، (سبتمبر/أيلول) 2011، سُئل الخاضع للتجربة عن نظريات المؤامرة بالعكس، فمثلا لم يكن السؤال هو: “هل النزول إلى القمر كان مؤامرة من قِبل ناسا؟”، بل كان: “هل يمكن لك أن تشارك في مؤامرة لتزييف النزول إلى القمر؟”، وهكذا استمرت الأسئلة حول إن كان من الممكن للخاضع أن يشارك في أعمال كـ تزييف الإيدز، أو التغطية على الكائنات الفضائية، تزييف التغير المناخي، أو قتل الأميرة ديانا… إلخ.
وجاءت النتائج الخاصة بالدراسات الثلاثة لتشير إلى أن الأشخاص الذين وافقوا على تلك المقترحات في الاختبارات كانوا بالفعل أكثر ميلا إلى تصديق نظريات المؤامرة، ما يعني أن رد الفعل الاجتماعي عند بعض الأشخاص هو مجرد انعكاس (Projection) لأفكارهم عن ذواتهم، كذلك أكدت الدراسة الأولى من تلك المجموعة ارتباطا بين تأييد نظريات المؤامرة وصفة نفسية مهمة وهي “الميكافيللية” (Machiavellianism) عند بعض الأشخاص، أي تعمّد التلاعب بالآخرين واستغلالهم لتحقيق المصلحة الذاتية فقط دون أي اعتبارات أخرى، ويرتبط بذلك أيضا دراسة أخرى نُشرت (أغسطس/آب) الفائت بنفس المجلة(8) تشير إلى وجود ترابط بين النرجسية كصفة جمعية أو فردية وبين تأييد نظريات المؤامرة.عدوى اجتماعيةجميل جدا، الآن نعرف أن طبيعة بعض الأفراد لها علاقة بتأييد نظرية المؤامرة، لكن ذلك في الحقيقة لا يفسر هذا المعدل الكبير من التأييد لنظريات المؤامرة في المجتمعات البشرية، هنا تتدخل نظرية أخرى لتفسير ميل الناس إلى تصديق نظريات المؤامرة، تتعلق تلك النظرية بميلنا كبشر إلى البحث عن الأنماط في كل شيء وأي شيء، لفهم ذلك دعنا نتأمل واحدة من أقدم التجارب في علم النفس الاجتماعي، إنها تجربة فريتز هايدر وماريان سيميل(9) (The Heider-Simmel Illusion)، شاهد معي الفيديو التالي لتفهم ما أقصد، والسؤال هنا ببساطة هو: هل هناك قصة في ذلك المشهد؟
بالطبع، كانت تلك هي إجابة -تقريبا- كل الخاضعين لذلك النوع من التجارب، لقد استطاع الجميع خلق قصة مكتملة لها علاقة بحركة كرة ومثلثين فقط، وفي كل مرة يخرج الواحد منّا بقصة مختلفة. بالطبع قصد هايدر وسميل أن تبدو الحركات كأنما تشبه قصة ما، لكن الفكرة ليست في أن البشر لديهم قدرة على البحث عن أنماط، وإنما قدرتهم على خلق أنماط مهما كانت المعطيات بسيطة، أو قليلة، أو مجردة، يشبه الأمر أن تجد صورة كلب، أو قطة، أو ديناصور، في تشكّلات السحب بالسماء.
ما نعرفه، من وجهة نظر نفسية تطورية(10)، هو أن تلك الصفة البشرية المهمة ساعدت الإنسان الأول على البقاء في أوقات من تاريخه كان كل همه خلالها هو وضع خطط فورية لإنقاذ حياته من المفترسات التي أحاطت به في غابات السافانا القديمة، بذلك يجمع البشر دائما أكثر قدر ممكن من البيانات بسرعة شديدة ثم يملؤون الفراغات في الهيكل العام لأفكارهم بأقرب خطة وأكثرها خطرا، في الحقيقة يرتكز البحث التسويقي المعاصر(11) على استخدام تلك الفكرة تحديدا لخلق عوامل حفز للعملاء كي يبدأوا أو يستمروا في شراء منتجات بعينها دون غيرها، كذلك ساهم علم الاقتصاد السلوكي في تطوير فهمنا للاعقلانية البشر والمرتبطة بمجمل موضوعات هذا التقرير*.
أضف إلى ذلك أن البشر كائنات اجتماعية، بمعنى أننا نميل إلى تصديق رأي الجماعة على ما هو واقع أو حقيقة، خذ مثلا تلك التجربة البسيطة لشخص يقف فجأة في شارع ما ثم ينظر إلى السماء، هنا سوف يحاول البعض فهم ما يحدث لينظر هو أيضا إلى السماء، وقد أثبتت العديد من التجارب(12) أنه كلما ارتفع عدد الأفراد الناظرين إلى السماء -المتفاعلين مع ظاهرة ما في العموم- ارتفع على إثر ذلك عدد القادمين الجدد للمشاركة في النظر إلى السماء أيضا (من 4% إلى 40% حينما ارتفع عدد المحدقين في السماء من 1 إلى 16)، إنها إذن حالة من العدوى الاجتماعية، ضغط المجموع على عقلانية الفرد، وإيقافها، من أجل اتّباع المجموعة.
لا شك أن ذلك لا يبتعد كثيرا عن حالة شهيرة في علم النفس نسميها “بالتحيز التأكيدي”(13) (Confirmation Bias) والتي أيضا تساعد في شرح سر قبول الناس لنظريات المؤامرة وتأكيدهم على صحتها مهما حاولت معهم من وجهة نظر عقلانية، ويعني التحيز التأكيدي أن البشر يميلون إلى جمع البيانات التي تؤيد أفكارهم فقط، يشبه ذلك أن تفكّر في شراء سيّارة من فئة “كيا كارينز” حمراء اللون، بعد أن تبدأ في التفكير بهذه الماركة تحديدا سوف تبدأ شيئا فشيئا برؤية عدد أكبر منها في الشارع، سوف يبدو الأمر كأن الشوارع قد امتلأت فجأة بسيارات كيا كارينز حمراء، إنها في الأصل كانت نفس المعدلات، لكنك طوّرت انتباها انتقائيا تجاه هذا النوع من السيّارات.طفل يبكي لغرض البكاءفي النهاية، فإن ميل البشر إلى رؤية مختلفة عن الواقع تتعلق في الأساس بعدم قدرتنا على صنع معالجة سريعة لطبيعة هذا الواقع المعقدة للغاية، وهو ما ينتج عنه عدة فجوات، ثم نقوم بملء تلك الفجوات عبر معتقداتنا الخاصة والتي فقط تؤيد أفكارنا أو قناعاتنا، فالنزول على القمر مثلا هو أمر غاية في التعقيد يتطلب تكنولوجيا عالية ومعادلات فيزيائية معقدة، الأسهل إذن هو أن تكون هناك مؤامرة، للاستزادة عن تلك النقطة تحديدا يمكن لك مراجعة تقرير سابق للكاتب يتحدث عن علاقة البشر بالتجريد تحت عنوان “هل تطورنا لنحب ميكانيكا الكم؟”.
نظرية المؤامرة إذن هي حالة معقدة من التأثيرات المختلفة، يفضل أن نتصوّرها كبارادايم له قواعد محددة يلتزم بها أفراده، وهذه القواعد لا علاقة لها بعقلانية الفكرة أو عدمها، ولكن فقط بالمعتقدات الثلاثة التي أوردناها بالأعلى، لذلك فإن محاورة شخص يعتقد في نظرية المؤامرة لن تفلح إن اعتمدت على مهاجمته بأدلة علمية مثلا، فهو لا يصدق العلم، أو أي شيء آخر، وإنما فقط يمكن -إن أردت- أن تحقق نتائج جيدة معه إن لم تبدأ بالحكم على أفكاره، حيث إن مواجهة الناس بتصحيحات أفكارهم المغلوطة سوف يؤثر بالعكس، سوف يجعلهم يتمسّكون بأفكارهم بدرجة أكبر، يسمى ذلك بتأثير الناتج العكسي(14) (Backfire effect).
لذلك، وفي مقال بعنوان “كيف تقنع شخص ما إن فشلت الحقائق؟”(15) يشير مايكل شريمر إلى أن أفضل طريقة للتعامل مع العقليات التآمرية هي أن تبدأ باحترام آرائهم، لا تهاجمهم أو تُدخل المشاعر إلى الحوار بأي شكل، كذلك تحتاج أن تستمع بانتباه للطرف الآخر مهما كانت حججه غير علمية، ثم عبّر عن تفهّمك لرأيه ولقناعاته وعن احترامك لها، كذلك وضّح له بهدوء أن تغير الحقائق لا يغير من وجهة نظره عن العالم، وأن ذلك لا يمس معتقداته بصورة أو بأخرى. هنا قد تحقق بعض النتائج.
والمشكلة الكبرى التي تواجهنا مع نظرية المؤامرة أنها قد تكون هي في ذاتها نظرية مؤامرة، خذ مثلا أسطورة الفيتامين “B17” التي تملأ الوطن العربي(16) هذه الأيام، تقول تلك الخرافة إن شركات الدواء تتآمر على الناس لكي يشتروا أدوية السرطان باهظة الثمن، بينما السرطان ما هو إلا نقص فيما يسمّى “فيتامين B17” الموجود بحبوب أنواع محددة من الفواكه، وأن تناولها يعالج السرطان، والمشكلة هنا هو أن تناول تلك الحبوب، بجانب أن المريض قد يترك مساقه العلاجي فتفشل منظومة العلاج، يتسبب في كارثة صحية بسبب رفع نسب السيانايد السام في جسمه، هنا تكون نظرية المؤامرة ليست فكرة فقط، وإنما قد تتحول إلى شيء قاتل، مؤامرات شبيهة تتعلق بالأمصال وإصابة الأطفال بالتوحد(17) قد تفوّت على أطفالنا فرصة مهمة لحمايتهم من أمراض خطيرة.
في كل الأحوال، ما زالت نظرية المؤامرة محل نشاط بحثي واسع في السنوات الأخيرة، خاصة مع مرور العالم بفترة من تاريخه قد فقد البشر خلالها ثقتهم في المنظومة كفكرة، كسردية، وكنظام حياة، بذلك تسود حاليا قناعات سفسطائية تساوي ما بين الاستثناء، مهما كان غير محتمل، والقاعدة. وما يؤمن به أصحاب الأرض المسطحة إذن ليس قناعة علمية، إذا كان كذلك لكوّن أصحابها مجموعة منظمة وموّلوا مشروعا لإنشاء صاروخ والخروج لرؤية إن كانت الأرض مسطحة أم لا، لذلك فإن الأمر لا يتعلق بالعلم، ولن تقنعهم أي أدلة علمية بالأساس مهما حاولت، مجتمع الأرض المسطحة هو بصورة ما رفض للمنظومة العالمية العلمية والعامة، رفض لمجرد الرفض، هو تمثّل حي لمشكلة البشر المعاصرة، مشكلة الحداثة، بأنها حالة لطفل يبكي لمجرد البكاء.