العجمي لوريمي يكتب “غنوشي لست وحدك.. مسيرة قائد شجاع”
المسيرة السياسية لراشد الغنوشي الرئيس الحالي لمجلس نواب الشعب التونسي، طويلة وثرية لا تكاد تشبهها مسيرة أي سياسي من رفاقه ومنافسيه، ويصعب اختصارها في بعض الوقائع أو بعض المحطات.
الرجال في المواقف والأسلوب، فكيف كانت مواقف الغنوشي وأسلوبه في التعاطي مع الواقع السياسي والقضايا الوطنية والقومية والعالمية؟ وهل كان تابعا فكريا أو مسايرا سياسيا لجهة ما منذ دخوله معترك العمل الدعوي والسياسي؟ أم كان شخصية فذة حاملة لمشروع؟ وما هو مشروعه؟ وكيف بلوره وبشر به وأنزله على أرض الواقع؟
الغنوشي ابن بيئته وقد نشأ في بيت محافظ وغير منغلق، يحترم العلم والعلماء، وتفتح وعيه على خيرة النخبة من العرب والغرب، وعلى انقسام في الموقف من المستعمر الفرنسي وحركة النضال من أجل الاستقلال، وطريقة الوصول إليه، وتحقيقه، واستكماله.
وانصرف بوجدانه وفكره إلى دعوة الاستقلال تماما غير منقوص، وإلى مجتمع ناهض بهويته العربية الإسلامية، كما في الثورتين المصرية والجزائرية.
وفي سبيل أن يشترك في تحقيق ذلك، قاده قدره وقدماه إلى عاصمة الأنوار باريس وإلى عاصمتي العروبة القاهرة ودمشق.
وقد كان الزمن ناصريا وكان عبد الناصر عنوان العرب والعروبة في عالم يطوي المرحلة الاستعمارية، ويدشن مرحلة السيادة والاستقلال متخبطا في خياراته الاقتصادية والتنموية والثقافية، معتمدا منهج التجربة والخطأ، يمسي ويصبح على القلاقل والاضطرابات والانقلابات والبطولات والخيانات.
لم يطل إعجاب الغنوشي بعبد الناصر، ولم تشف غليله الأدبيات القومية والنظريات العربية والأيديولوجيات الرائجة آنذاك.
كان المشارقة يتهمون بورقيبة بالانبهار بثقافة المستعمر والتفريط في الحق العربي في فلسطين والجرأة في الدعوة للتنازلات بدعوى المرحلية والسخرية من النزعات القومية والثورية باسم الواقعية والعقلانية.
جاءت نكسة 1967 وهزيمة العروبة الرسمية، وأخفقت سياسات التنمية على المنوال الاشتراكي البيروقراطي.. آنذاك حسم الشاب راشد أمره: التغريب أتانا بالدكتاتورية والاستبداد خلف لنا الهزائم، والعلمانية لم تخرجنا من الانحطاط، ومنهج التجربة والخطأ لن يحقق لنا التنمية والتقدم، بل سيجعلنا ندور في حلقة مفرغة، وليس كل ما في ماضينا وتراثنا تخلف وفساد، وليس فيما يعرض ويفرض علينا من خارج حدودنا ومنظومتنا القيمة صلاح وفلاح.
بل علينا أن نعمل بقاعدة الاحتفاظ والتجاوز في العلاقة بموروثنا الثقافي والحضاري، وما علينا إلا استئناف حياة إسلامية يحتل الدين فيها قلب المجتمع ومحرك نهوضه..
هذا الوعي المبكر بمأزق التقليديين والحداثيين دفع الشاب راشد إلى البحث عمن يشاطره الفكرة، ولم يسع إلى التموقع في هياكل حزب الدستور الحاكم أو التقرب إلى مسؤولية النظام، وسرعان ما وجد من يشاطرونه الفكرة، وكانوا من القلائل الذين عادوا من المشرق العربي أو من أوروبا، حاملين بين جنوبهم تقييما لتجارب تلك الدول وأنظمتها وأحزابها، لذلك لم يلتفت إليها كنماذج للاقتداء أو أنظمة يدين لها بالولاء.
عاد من هناك الغنوشي لينطلق في تجربة التعليم والتدريس والتوعية بلا كلل أو هوادة، فكان يدرس مادة الفلسفة والتفكير الإسلامي ويحاضر في المنتديات والمساجد، ويعلم الشباب والنساء. ووجد في ثلة من الشباب الملتزم شريكا في الفكرة وفي الدفاع عنها والدعوة لها.
ومضى على ذلك الحال والمنوال سنوات لم يترك ركنا في الوطن ألا زاره متنقلا بين مدنه وقراه وريفه ومساجده، وقد كانت أزمة النظام السياسية تظهر وتحتد، وأزمة المجتمع تتعمق وتشتد، ومرض الزعيم بورقيبة وتناقضات أجنحة حكمه وحزبه تلقي بظلالها الثقيلة على الأوضاع.
هذه الاحداث رافقها الغنوشي من التعليم إلى التنظيم، وإلى الإعلان السياسي والمجاهرة بالمعارضة والدعوة لتغيير الأوضاع والمطالبة بتغيير نهج النظام، بل النظام بأكمله.
ونقل الحالة الإسلامية من الفكرة إلى الحركة، ومن الدعوة إلى السياسة، ومن التعبير بالكلمة والحجة إلى التعبير بالتحشيد والاحتجاج، ولم يكن هناك بد من الصدام عند تعذر الاعتراف، وتعمد التضييق على التيار السياسي ذا المرجعية الإسلامية، خاصة وقد شهد العالم أكبر ثورة في المنتصف الثاني من القرن العشرين، وهي الثورة الإسلامية الإيرانية بزعامة آية الله الخميني.
وبدا أن الغنوشي وحركته التي لم تعد مجرد جماعة دعوية ورابطة ثقافية، على موعد مع التاريخ، من خلال الصراع المتصاعد مع النظام البورقيبي، بعد أن تمرس شباب الحركة بالصراع مع اليسار، وتمكن من خلال أدوات النضال الشعبي.
ويغريه بذلك انتشار الحركة وفكرها وخطابه في صفوف شرائح عديدة في كامل القطر وكانت القناعة لدى الغنوشي وصحبه أن البلاد لن توضع في مدارها الحضاري ومسارها التنموي الحقيقي إلا إذا تجذرت في انتمائها وهويتها الإسلامية وجذرت قطيعتها مع نظام الاستبداد الذي لا أمل في صلاحه وإصلاحه.
وقد كان الغنوشي يؤصل لكل مرحلة وينظر لمتطلباتها يدعو الشباب إلى التعقل إذا تعجلوا المواجهة، ويدعوهم إلى الثبات والصمود في وجه القمع إذا استدرجهم النظام أو جرهم إلى الصدام أو بادرهم بالحرب وحملات التفكيك والتنكيل.
ولم يكن الغنوشي يتراجع أمام النظام لأن السلطة إذا اختارت الهجوم لن تكف عنه مع التراجع، وإنها لن تقبل بالحوار والمصالحة إلا إذا تعادلت القوى والموازين.
أراد الغنوشي في كل مراحل تجربته الثرية أن يموقع حركته في خارطة الوطن، وأن يموقع نفسه في التاريخ مصلحا ومقاوما ومجددا: مصلحا للمجتمع ومقاوما للظلم والدكتاتورية، ومجددا للفكر الإسلامي والعربي.
ولم تكن تلك مهمة سهلة، إذ أخذت منه نصف قرن من العناء والمعاناة، عقد خلالها آلاف اللقاءات والاجتماعات والحوارات وتوزعت حياته بين الدعوة والسجن والمنفى غريبا في وطنه غريبا عن وطنه والتقى آلاف المناضلين والنشطاء من كل التيارات والبلدان والتنظيمات، يحترم الأحرار ويصادقهم ويحالفهم مهما كانت دياناتهم وقومياتهم ومنظماتهم..
واجه الغنوشي الذي واجه الموت وتدلت المشنقة حتى كادت تلتف على رقبته، واستعجل خصومه من الحكام وأسيادهم وأذنابهم حصاره وملاحقته والتٱمر على حياته ومشروعه ورفعه مساره وقدره من الأسر إلى القصر ومن المنفى إلى الوطن ومن المعارضة إلى الحكم في بحث لا يفتر عن الشريك في البناء، فكان يدا ممدودة للوحدة وقلبا متفتحا لأجل المصالحة الشاملة.
هذه مسيرة رجل شجاع أنصفته الأيام وظلمته النخب التي جهلته، وأخذتها العزة بالإثم.. هو اليوم الأكثر متابعة والأكثر استهدافا في ساحتنا العربية الإسلامية يعرف جيدا ماذا يريد ويعرف جيدا ما يريدون، وكلما كانت الرؤية لديه واضحة سار إلى غايته شعاره قول محمد عليه الصلاة والسلام: اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون..
ستنصفك الأيام يوما أيها القائد الشجاع..
* عجمي الوريمي، سياسي ومثقف يعد من بين أهم رموز القيادات الطلابية في تونس. قضى 17 سنة في السجن. وهو عضو المكتب التنفيذي في حركة النهضة.جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “عربي21”