كتب أمين عام حزب العمال حمه الهمامي اليوم الأحد نصا مؤثّرا بمناسبة خروج زوجته ورفيقته راضية النصراوي من المصحة وعودتها إلى منزلهما.
وفي ما يلي النص الذي كتبه حمه الهمامي:
إلى إدارة مصحة سكرة وإلى الإطار الطبي وشبه الطبي والعاملات والعاملين بالمصحة
إلى كل الرفيقات والرفاق والصديقات والأصدقاء الذين جعلوني لا أشعر ولو للحظة واحدة أنني وحيد في مواجهة محني
إلى الإعلاميات والإعلاميين الذين أثاروا دموعي بالسؤال “أولا” عن راضية كلّما حللت ضيفا عندهم للحديث في شأن الوطن.
إلى راضية الجميلة التي أعادتني إلى الكتابة الأدبية التي هجرتها في سنّ مبكرة من عُمُري…
إلى روح الأديب محمود المسعدي الذي نطق حقّا حين قال: ” الأدب مأساة أو لا يكون”
في هذا اليوم الجميل الذي تسطع فيه شمس ربيعية من أعالي السماء وتنشر الفرح والحبور في كل قلب…(على الأقل مازالت الطبيعة وحدها ترحم الفقراء والمعدمين في هذا الوطن وتبثّ فيهم من وقت إلى آخر شيئا من الفرح الإنساني…)، في هذا اليوم تغادر راضية مصحّة سكّرة التي قضّت فيها ثلاثة أشهر بالتمام والكمال في العلاج…وقبلها كانت أقامت قرابة الثلاثة أشهر بالمستشفى العسكري بالعاصمة حيث أجريت عليها عملية جراحية على الدماغ…ستّة أشهر تحمّلت فيها راضية من الآلام والأوجاع ما لا تتحمّله الجبال وكانت المسافة بينها وبين الموت في لحظة من اللحظات أقرب من المسافة بينها وبين الحياة. ولكنها كابدت وصمدت وانتصرت كعادتها… ومنذ متى كانت راضية النّصراوي تقبل بالهزيمة؟
في هذا اليوم الجميل الذي تشقّها نُسَيْمَاتٌ تعبق باللطف وتثير السعادة في النفس تعود راضية إلى منزلها…وعليّ أن أعترف أنّها حيثما حلّت طوال هذه المدة كان الجميع من أطباء وطبيبات وممرضين وممرضات وعاملين وعاملات، سواء في المستشفى العسكري أو في مصحة سكرة، يقابلها بالحبّ…راضية أنقذها العلم… لكن الحب أنقذها أيضا…حب كل التونسيات والتونسيين الذين باشروا علاجها أو وقفوا إلى جانبها بلا انقطاع أو سألوا عنها وكتبوا المقالات والرسائل والتدوينات التي تطفح عشقا ومحبة…الحب هو العمق الإنساني العظيم لكل حركة شريفة أو عمل نظيف أو نضال صادق في هذه الحياة…لولا الحبّ لما عاشت راضية…أعطت من قلبها ما أمكن لها أن تعطي لوطنها وبناته وأبنائه وأعطوها، ساعة الضّيق، من الحبّ، ما قوّاها على الأوجاع وحماها من الانهيار والفناء…
“امرأة في حجم وطن…”…ما أجمل هذه العبارة التي أطلقتها إحدى نساء تونس حين كتبت على راضية…أجزم أنه لا يمكن الفصل بين راضية والوطن بجغرافيته وتاريخه وشعبه ورمزيته. ظلت على مدى عقود في قلب أحداث تونس رافعة راية الدفاع عن الحق والحرية والمساواة والعدالة وعن كلّ ما يمنح الإنسان إنسانيّته. وذاع صيتها في كافة أرجاء العالم مما حولها إلى مرجع لا يرقى إليها الشك من حيث الجدية والمصداقية…ولم تكن تبالي بالجوائز والتكريمات الكثيرة التي حظيت بها…كان همها الوحيد والدائم ما يمكنها أن تقدم في هذه القضية أو تلك لرفع مظلمة أو إعادة حق لصاحبه أو إعادة الأمل إلى مظلومة أو مظلوم سواء كان فردا أو جماعة…لا مكان للخوف أو اليأس أو الإحباط في قاموس راضية…”إلى الأمام”،” Avanti”: هذا كل ما تعرفه وهذا كل ما تفعله. يقول المثل الإيطالي: “الشجاعة تزداد كلما ازدادت الجرأة والخوف يزداد كلما ازداد التردد”. لا خوف ولا تردد عند راضية. الموت هو أقصى ما يمكن أن يخشاه الإنسان. وراضية لا تخشى الموت وتتحداه بحب الحياة والنضال من أجلها. “الشجاعة تعني أن تفهم مغزى حياتك… هي أن تحب الحياة وتنظر إلى الموت بهدوء” كما قال القائد الاشتراكي الفرنسي “جان جوريس”. وقد قال شاعرنا أبو القاسم الشابي أيضا: “ومن لم يعانقه شوق الحياة…تبخّر في جوّها واندثرْ”.
راضية تعود اليوم إلى منزلها منتصرة على المرض والألم والفرحة تغمرها… لن تكون كما كانت لأنها لم تشف بالكامل من مرضها متعدد الأسباب والأعراض كما يقول الأطباء… ولكن المهم أنها واعية، مدركة، وحتى إن أعوزها الكلام أحيانا للتعبير عمّا تريد فإن نظراتها وملامح وجهها أقدر على الإبلاغ من الكلام…يا لها من محنة عشناها ونعيشها منذ أكثر من ثلاث سنوات هي بمثابة ثلاثة عقود أو قرون… وتشاء الظروف أن تتلازم محنة راضية بمحنة الوطن فيعيش الواحد محنتين في مرّة واحدة…”الحبّ واحد…والوجع واحد…وإن انقسما إلى اثنين…فهما في قلب واحد…ولا قدر لي…تونس جميلتي…وراضية حبيبتي…غير حبّكما…”. أقسمنا ونقسم أننا لن نتخلى لا عن هذه ولا عن تلك. فالحب واحد والوجع واحد. فإلى جولة جديدة من جولات الحياة ونحن واثقون بالنصر في كل الواجهات…هذا خيارنا وقدرنا ولا حياد عنه.
“دَعيني أكلّمك أيضا مع صمتك
الصّافي مثل مصباح،
البسيطِ مثل خاتم،
أنتِ مثل اللّيل، الصّامت والمرصّع بالنجوم،
صمتك صمتُ نَجْمة،
بهذا البعد وهذه البساطة…
(تعجبينني حين تصمتين. بابلو نيرودا، الشيلي)
—–
تتأمّلني النّجوم الكبيرة بعينيكِ
ومثلما أحبُّكِ تودّ أشجار الصّنوبر في الرّيحِ
أنْ تُغنّي اسمَكِ مع أوراقها الرقيقة
(هنا أحبّكِ، بابلو نيرودا، الشيلي)
——-
أراك فتحلو لدي الحياة
ويملأ نفسي صباح الأملْ
وتنمو بصدري ورود عِذابْ
وتحنو على قلبي المشتعِلْ
أراك فأُخْلقُ خَلْقًا جديدا
كأنِّيَ لم أبْلُ حرب الوجودْ…
ولم أحتمل فيه عبئا ثقيلا
من الذكريات التي لا تَبِيدْ
(أراك فتحلو لدي الحياة، أبو القاسم الشابي، تونس)
——–
“أقسمت بزيتون السّاحل…
بتمر الجريد…
أقسمت بالشتاء في جندوبة…
بالصيف في
مدنين…
أقسمت بالعمّال والفلّاحين…
أقسمت بالجبل الأحمر والملّاسين
هذه الشمس المُصْفَرّةُ خَجَلًا..
يُشْرٍقُ وجهُهَا ذات صباح بدم جديدْ
تتلألأ أملا…
وتملأ قلوبَ الأشقياءَ
والعَبيدْ…”
(أقسمت على انتصار الشمس، مختار اللغماني، تونس)
———
“منتصبَ القامَةِ
أمشي
مرفوعَ الهامةِ أمشي”
وعقيدتي:
الوقتُ للصمودْ
الوقتُ للكفاحْ…
فليَ رفاق من ذهبْ
وَلِيَ أحبّةٌ
مِن ياقوتْ…
——-
مصحّة سكّرة. تونس
فجر يوم 10 أفريل 2022